فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (86):

قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان للتعميم بعد التخصيص والتفصيل بعد الإجمال من الموقع في النفوس ما لا يخفى، وكان النهي عن الإفساد بالصد عن سبيل الله هو المقصود بالذات لأنه ينهى عن كل فساد، خصه بالذكر إشارة إلى أنه زبدة المراد بعد التعميم فقال: {ولا تقعدوا} أي تفعلوا فعل المترصد المقبل بكليته {بكل صراط} أي طريق من طرق الدنيا والدين من الحلال والحرام والأوامر والنواهي والمحكم والمتشابه والأمثال {توعدون} أي تتهددون من يسلكه بكل شر إن لم يوافقكم على ما تريدون.
ولما كان طريق الدين أهم، خصه بالذكر فقال: {وتصدون} أي توقعون الصد على سبيل الاستمرار {عن سبيل الله} أي طريق من له الأمر كله؛ ولما ذكر الصدود عنه، ذكر المصدود فقال: {من آمن به} آي بالله فسلك سبيله التي لا أقوم منها؛ ولما كانوا لا يقنعون بمطلق الصد بالتهديد ونحوه، بل يبدون للمصدود شبهًا توهمه أنه على ضلال، قال عاطفًا: {وتبغونها عوجًا} أي وتطلبون السبيل حال كونها ذات عوج، أي تطلبون اعوجاجها بإلقاء الشبهات والشكوك كما تقول: أريد فلانًا ملكًا، أي أريد ملكه، وقد تقدم في آل عمران أن نصبه على الحال أرجح، وأن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح «ابغني أحجارًا أستنفض بها» يرجح نصبه على المفعولية- والله اعلم.
ولما كانت أفعالهم نقص الناس إما في الأموال بالبخس وإما في الإيمان والنصرة بالصد، ذكرهم أن الله تعالى فعل معهم ضد ذلك من التكثير بعد القلة في سياق منذر باجتثاثهم عن وجه الأرض وخصهم فضلًا عن تقليلهم ونقصهم، فقال عطفًا على قوله: {اعبدوا الله} وما بعده من الأوامر والنواهي: {واذكروا إذ} أي حين {كنتم قليلًا} أي في العدد والمدد {فكثركم} أي كثر عددكم وأموالكم وكل شيء ينسب إليكم، فلا تقابلوا النعمة بضدها، فإن ذكر النعمة مرغب في الشكر.
ولما رغبهم بالتذكير بالنعمة، حذرهم بالتذكير بأهل النقمة فقال: {وانظروا كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المفسدين} أي في عموم الإهلاك بأنواع العذاب لتحذروا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم كما صرح به في سورة هود لكون الحال هناك مقتضيًا للبسط كما سيأتي إن شاء الله تعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}.
اعلم أن شعيبًا عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء.
الأول: أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق، لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صراط} قولان: الأول: يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس.
روي أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام.
والثاني: أن يحمل الصراط على مناهج الدين، قال صاحب الكشاف: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صراط} أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين، والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} وقوله: {بِكُلِّ صراط} يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها، فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا، فالباء للإلصاق، وهو قد التصق بذلك المكان.
وأما قوله: {تُوعِدُونَ} فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال، والتقدير: ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجًا في سبيل الله، والحاصل: أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة.
واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض.
وجب حصول المغايرة بينها فقوله: {تُوعِدُونَ} يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد، فقد يكون بالإيعاد بالمضار، وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه، وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه.
أما قوله: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيبًا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة.
وإذا تأملت علمت أن أحدًا لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة.
ثم قال: {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية، قال الزجاج: وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه، كثر عددكم بعد القلة، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالقدرة بعد الضعف، ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل، في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة.
فأما تكثير عددهم بعد القلة؛ فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط، فولدت حتى كثر عددهم.
ثم قال بعده: {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال، ليصير ذلك زاجرًا لكم عن العصيان والفساد، فقوله: {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا، وقوله: {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال، احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا، فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولًا والترهيب ثانيًا. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} أي لا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يقول: تمنعون الناس عن دين الإسلام {مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} يقول: تريدون بملة الإسلام زيغًا وغيرًا.
وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: بكل سبيل حتى تصدوا أهلها عنها {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال وتلتمسون بها الزيغ.
ويقال معناه: لا تقعدوا على كل طريق تخوفون الناس وتخوفون أهل الإيمان بشعيب عليه السلام.
ثم قال: {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} أي كنتم قليلًا في العدد فكثَّر عددكم.
ويقال: كنتم فقراء فأغناكم وكثر أموالكم {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} أي كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل، يعني: الذين قبلهم قوم نوح وقوم عاد وقوم هود وقوم صالح. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} يعني في هذا الطريق كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14].
{تُوعِدُونَ} تُهددون {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} دين الله: {مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} زيغًا وذلك أنّهم كانوا يجلسون على الطرق فيُخبرون مَنْ قصد شعيبًا ليُؤمن به إنّ شعيبًا كذّاب. فلا يفتنّنك عن ذلك وكانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوّفونهم.
قال السدي وأبو روق: كانوا جبّارين. قال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يقطعون الطريق. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أُسري بي خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلاّ شقّته ولا شيء إلاّ خرقته فقلت ما هذا يا جبرائيل؟
قال: هذا مثل أقوام من أُمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثمّ تلا: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}»
.
{واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} فكثّر بينكم {وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} يعني آخر قوم لوط. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوِعَدُونَ}.
الصراط: الطريق، قال الشاعر:
شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ** تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ

وفي المراد به ثلاثة أقاويل:
أحدهما: أنهم كانوا يقعدون على الطريق إلى شعيب يؤذون من قصده للإيمان به ويخوفونه بالقتل، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه نهاهم عن قطع الطريق، قاله أبو هريرة.
والثالث: أنهم العشارون نهاهم عن تعشير أموال الناس.
{وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ} ويحتمل وجهين:
أحدهما: تصدون المؤمنين عن طاعة الله وعبادته.
والثاني: تصدون من أراد الإيمان بإغوائه ومخادعته.
{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال قتادة: يعني تبغون السبيل عوجًا عن الحق.
والفرق بين العوج بالكسر وبالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين، ولا يُرَى، والعوج بفتح العين ما كان في العود، وما يرى.
{وَاذْكُرواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} حكى الزجاج فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: كثر عددكم بعد القلة قال ابن عباس: وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج زينا بنت لوط وولد آل مدين منها.
والثاني: كثركم بالغنى بعد الفقر.
والثالث: كثركم بالقوة بعد الضعف.
وذكر بعض المفسرين وجهًا رابعًا: أنه كثرهم بطول الأعمار بعد قصرها من قبل. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {ولا تقعدوا بكل صراط} الآية، قال السدي هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، والصراط: الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل: خسهم ونقصهم الكيل والوزن، وقال أبو هريرة رضي الله عنه، وهو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد هذين القولين ويشبههما، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضًا، قوله: {ولا تقعدوا} نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول، وقوله تعالى: {وتصدون عن سبيل الله من آمن} الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى و{سبيل الله} المفضية إلى رحمته، والضمير في {به} يحتمل أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر السبيل وتقدم القول في مثل قوله: {وتبغونها عوجًا} في صدر السورة، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد، وقيل: أغناهم بعد فقر، فالمعنى على هذا: إذ كنتم قليلًا قدركم، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة. اهـ.